النجاح والرسوب يحتكمان إلى الدكتور سمير العمري
هممتُ ذات مساء بكتابة كلمة عن النجاح والرسوب ، وفيما كنتُ أشرع في الكتابة لمحتُ اثنين قادمَين ، ولمّا كانت هيئتهما متَّسِمةً بصفة الغرابة بالنسبة لي ، أوقفتُ الخيال بجِماح النظر والتحديق إليهما ، وبالخصوص كأنهما قاصدان إليَّ دون بقية الأنام .
أحدهما طويل القامة ، ضخم البنية ، مفتول العضلات ، كأنما هو بقيةٌ من قوم عاد !!
والآخر ، وما أدراك ما هو : رجل في منزلة بين المنزلتين .. كما تقول المعتزلة !! ليس فيه ما يلفت النظر ، إلا أنه يظهر للرائي بادئ الأمر أنه من قومٍ لمّا يُخلَقوا ، وإنما خِلقَتُهم شاغرة، كما في لغة الوظائف ؛ إذ ما سبق للتاريخ أن تبرع بوصفهم ، إلا في ألف ليلة وليلة ، وهو بعدُ مصدرٌ هام لإثبات تواريخ هؤلاء !!!
فلما قَرُبا مني ، انحنى العملاق العاديّ ( نسبة إلى قوم عاد ) انحناءةً تشبه انحناءة طائرة البوينج عندما تستعد لمصافحة الأرض . . ليصل أذن رفيقه الذي لا أعلم من صفته سوى أنه من قوم ما زالوا في كتمان الغيب . . ليقول له : أهو هذا ؟ وقد قالها فيما أحسب بصوت أخفض من صوت القلب حينما يتناجى مع المخ . . ولكنه مع ذلك ما كانت قولته في أذني إلا صوت مكبِّر في أصفى ما يكون ! لا لأن سمعي لا كالأسماع ، بل لأن صوت ذلك العملاق لا كالأصوات . فردَّ المجهول الغيبي : هو هو . . ولم أفهمها منه إلا بإشمامه لشفتيه، ولم أدرِ من أين للخبيث بالتجويد ؟ !
فسلَّما ، فرددتُ ، فرحبتُ ، فجلسا . . ولمّا كان من عادتي أن لا أسأل القادم عن دوافع قدومه إلا إذا بدأ هو بطوعٍ من نفسه في الحديث عن أسباب مجيئه ، تريثتُ ، ريثما قدمتُ لهما شراباً ، وما إن أتى العملاق على نصيبه منه حتى رأيته متهيئاً للحديث ، فقلتُ : خيراً ؟
وهنا انبرى زميله فقال : جئنا إليك نختصم . . نطلب فتواكَ لا قِراك ! فقلتُ : هما لكما إذا شئتما ، فثنى العملاق عِطفَه ليقول : حسناً ، ولكن أرِنا منهما ما جئنا لأجله لنرى : أيُطمِعنا الخيرُ بالحسنى ، أما إذا انعكست الآية ، فلا هذا ولا ذاك . . وهنا أدركتُ أن هذا العملاق من فئة ذات مزاج ساخن . . فقلتُ : ما وراءكما ؟ قالا معاً : المسألة أنَّ . . وهنا قطعتُ عليهما الحديثَ قبل إتمامه ، وقلتُ : على رسلكما ، أحدكما فالآخر . . وهنا قال المُباين للعملاق : ذلك خير الحسنيين . فأذِنَ لصاحبه العملاق بالحديث ، فبدأ كأنما هو سيلٌ جارف . . قائلاً :
اسمي " النجاح بن فلان الفَوقيّ " ، وصديقي هذا اسمه " الرسوب بن مرسوب التحتي" . . ولمَّا كان فضلي أظهر ، ونوري أبهر ، وخيري أوقع وأجدر ، حاول هذا الطفيليُّ مشاركتي في سيما الخير ، بحكم ما بيننا من التلازم كالذي بين المبتدأ والخبر ، والفعل والفاعل ، والعدل والإسلام ، فحاول التطفل إلى خيري ، وبَزّي حقي ، فلما أبى إلا اللجاج والخصام . . دُلِلنا عليك لتحكم بيننا بما أراك الله ، فلا تكن للخائنين خصيمًا .
فاستغفرتُ الله ، وقلتُ للرسوب : ما عندك ؟
فأومأ بطرفه إلى نِدِّه ليقول له : أسمعُ جعجعةً ولا أرى طحنًا . . ما الخير الذي زعمتَه لنفسك ؟ أما آن لك أن تنزل من سمائك إلى أرضي ، فيذهب هديرك كما ذهب هدير بعض الظالمين ؟
بماذا تفضُلُني ؟ أبمعناك اللغوي أم بالاصطلاحي ؟ أم بِكُرةٍ ممرَّغةٍ في وحلٍ بينهما ؟ أم بقوتك وبدانتكَ التي أحسنَ وصفها حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه حين قال : "جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ " ؟ أم بوصف الباري لأشباهك ممن :" وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، وإن يقولوا تسمع لقولهم ، كأنهم خُشُبٌ مسنَّدة " ؟ فيا لك من مغرورٍ غرَّهُ هُزالي ، ورِقَّةُ حالي ، فظنَّ أنه كلُّ شيء ، وأنني كلُّ لا شيء !!
أعِدْ نظراً يا عبدَ قيسٍ لعلَّما أضاءت لكَ النارُ الحمارَ المقيدا
وعندما أنشد الرسوب البيت ، عيل صبر العملاق العاديِّ ، فعبس وبسر ، ثم أقبل وأدبر ، فأشار بكفه ، فكأنما الأشجار المركَّبة فيه ( الأصابع ) لا تكفي إحداها للإشارة !! فقال : لقد استنسر البُغات .. ألمثلي تقول هذا يا راسب بن مرسوب ؟؟!! أنا الذي سُهِرَ من أجلي ، وأعدَّ الآباءُ أبناءهم في استحصالي ، فواللهِ ما استعاذت الأمُّ على ابنها في دياجير الحوالك إلا منك ، ولا سألت ربَّها في السَّحَرِ لفلذة كبدها إلا إياي ، وما نيلت الرُّتَبُ إلا بي ، وما تعوقِدَ مع المعلمين في الأقطار النائية بباهظ الأجر إلا لأكون النتيجة في آخر العام .. ثم ، مَنْ علَّمكَ القول حتى تقول ؟ ومَنْ فرِحَ بكَ حتى تفرح بنفسك ؟
فلما وصل النجاح إلى هذا القول ، التفت الرسوب إليه التفاتة الساخر بما سمع ، ناظراً إليه نظرة مَنْ يؤمن بأنَّ الحقَّ بجانبه ، وأنَّ الخَطَلَ مع نِدِّهِ ، فقال : هذا قولكَ ، فما الشاهد عليه من التاريخ والواقع ؟ فلله نبراتُ صوتكَ ما أسهل انسياب الضلال من ثقوبها إلى مسامع الأبرياء الذين لم يتعوَّدوا إلا الحقَّ وسماعَهُ . قلتَ : إنهم فرحوا بك ؟! وهل كلُّ فرَحٍ يعتَبَر ؟! لكأنك من قوم قارون فتُرشَق بقوله تعالى : " إن الله لا يحب الفرِحين " . وهل معنى هذا الفرح إلا أنهم هضموا خمسة عشر كتاباً إن لم تزِدْ ، أقلُُّها صفحاتٍ ما حوى المائتين ، في تسعة أشهر على الأكثر ، ثلاثة أرباعها عطل . هنيئاً لك ولهؤلاء العلماء . . وإذا قرُبت الامتحانات ، خفقت القلوب ، ووجلت الأفئدة ، وسُهِر الليل ، وضُيِّعت فريضة الفجر ، ولا تسمعُ إلا همساً .
قال الراوي : فرفع النجاح عقيرته ليقول ويرُدّ ، ولكني لمَّا كنتُ غيرَ أهلٍ للحكم بين خصمين كهذين ، قطعتُ عليهما الحديث لأحيلهما على مليٍّ ، ومَنْ أحيل إلى مليٍّ احتال . وفعلاً أحلتهما إلى الدكتور سمير العمري ليسمع من الخصمين ويحكم بينهما . فأخذ النجاح بتلابيب الرسوب إلى أن وصلا إلى شارع الساحة ، فقلتُ الحمد لله على هذه الراحة .
.................
نقل لروعته
............